بيوغرافيا الكتمان لصالح وعمر

أ.د. فتحي محمد الغريب أستاذ المكتبات والمعلومات كلية الآداب الجميل جامعة صبراتة –ليبيا


مفاتيح السيرة:

بين العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي لم تكن بلدتا العسة وزلطن على الحدود الليبية التونسية سوى وهاد وأبسطة من الطبيعة التي لم يمسسها بشر ولم تعبث بها آلة عدا ما يمكن أن تُنكش به الأرض نكشا خفيفا لبذر القمح والشعير، وشجرات معدودة من الزيتون، وبعض الدور الطينية القليلة المغروسة في الأرجاء.

وعلى نلك التضاريس أبصرت عينا صالح وعينا عمر نور الله على الأرض، ثم انقدحت في البصيرة رؤى الزمن الآتي. ولد الأول سنة 1923م في العسة، وولد الثاني سنة 1934م في زلطن.



ترجل صالح عن طفولته في الثامنة وساح في دنيا الله مرافقا لأحد أعمامه، من العسة إلى نالوت ثم إلى بني وليد وزوارة وطرابلس، دخل المدرسة في كل تلك المدن وأتقن الحرف بالعربية والايطالية.

 وفاضت طفولة عمر عن رغبة أبيه في أن يجعل منه فلاحا قابضا على الأديم، فانسل من ذرات التراب وركب الجبل وهو في الثانية عشر من العمر نحو بيت رجل تعرفه الأسرة، متلمسا الإمساك بأهداب الحروف.

 فلم يكن للأب سوى أن ينصاع لرغبة الابن فأعاده وألحقه بالمدرسة. 

ربيع وخريف سريعان: صالح هو: صالح بن عمار المبروك النايلي عمر هو: عمر بلقاسم التقاز الخويلدي في المزج الثاني من العمر وبعد حصاد الحروف عمل صالح مدرسا في مدرسة سان جورجيو بشلرع ميزران لمدة محدودة ثم محاسبا بالقطاع الخاص، ثم غادر كل ذلك إلى العمل الخاص به، واشتغل عمر بالتدريس مدة أطول من مدة بقاء صنوه ثم بالمقاولات وأسس مطبعة.

 حمل صالح ذاته إلى دهاليز المدينة، إلى أزقة وشوارع طرابلس إبان حموة النضال الوطني لنيل الاستقلال حيث انخرط في المعجنة السياسية الطرابلسية، بجانب كل الشخوص التأسيسية المهمة حينئذ، بشير بك السعداوي، أبوالاسعاد العالم، علي مصطفى المصراتي، مصطفى ميزران، الهادي المشيرقي، احمد زارم، وآخرون لا يتسع لهم الحصر ولا العد.

 في عشريتي الاستقلال ارتقت تطلعات الرجلين إلى أن يكونا عضوين برلمانيين، فقصدا وعمدا لكن لم يوفق كل منهما في محاولة الارتقاء الأولى، وتسنى لهما التوفيق فيما بعد؛ صالح في مطلع الستينيات وعمر في أواخرها، قبل أن تنطوي صفحة زمن سياسي وتنفتح صفحة زمن سياسي آخر.

 في الزمن الطويل التالي ركب عمر سيارته المرسيدس وأدار مطبعته قبل أن تؤممها السلطة نهاية السبعينيات. 

ومارس صالح تجارته في قطع غيار السيارات قبل أن تلغى التجارة الخاصة في البلد، واعتنى كل منهما بمزرعة في ضواحي بلدته. 

 لكن ماذا في البيوغرافيا المكتومة من خبيئة ؟ في مجالس مجتمع مدن أقصى الغرب الليبي (الجميل، رقدالين، زلطن) تؤثث الأحاديث عادة بالتاريخ والسياسة والشخوص الميتة والحية، وعادة ما تعبر الأفق ظلال الرجلين. في العام 2012م جرى حبر كثير وكلام كثير عن ليبيا الستينيات وما قبلها، واستبيح المسكوت عنه وتهدمت السردية الرسمية للسلطة المغلوبة عن تلك المرحلة،


 وفي استضافة من المنتدى الليبي للثقافة والحوار بمسرح المعهد العالي للعلوم والتقنية بمدينة رقدالين قدم صالح بن عمار محاضرة تحت عنوان (ليبيا بين الأربعينيات والسبعينيات في ذاكرة سياسي)، وقبل أن يحضر الضيف كان المسرح ممتلئ عن آخره، ببشر من كل الفئات والأعمار في مشهدية لم تر من قبل، فضولا وتوقا لما يمكن أن يقوله الرجل الظاهرة في مخيالهم، المعروف بجرأته وصراحته وشجاعته. 

في هذا اللقاء/الوثيقة - وهو بالمناسبة مسجل بالفيديو ومحفوظ في أرشيف المنتدى - تحدث صالح بكامل الأريحية والشفافية التي يتوفر عليها رجل تسعيني لا يبتغي إلا أن يقول ما يشعر به وتختزنه مدونته المكتومة في أعماقه،

 ولقد قال الرجل كل ما كان يود قوله عن الشخوص والأحوال وقدم رأيه وتقييمه عن الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. 

في الجلسة الجانبية على هامش المحاضرة تحدث الرجل عن مسودة سيرته الذاتية التي عنونها (تأريخ ما لم يذكره التاريخ) وقال بأنه قدمها للمركز الليبي للدراسات والمحفوظات التاريخية لنشرها؛ لكن المركز اشترط تعديل صيغتها التي قدمها بها فلم يقبل الرجل بالتعديل. 

كان عمر التقاز أصغر أعضاء البرلمان في زمنه، العام 1965م، وكانت له رؤيته حول كيف تتحول المنطقة الريفية المتناثرة في الوهاد إلى بلدة حضرية، نواتها النقطة المعروفة بالمرسال التي كان الناس يلتقون فيها للتبضع وسقيا أغنامهم من الآبار الموجودة بها، فترجح الرأي الذي ذهب فيه عمر بأن تكون المرسال نواة مدينة زلطن اليوم فتكونت الحاضرة وكبرت.


 من الكتمان إلى الظهور: هل كان الرجلان عرضين في غبار الغرب الليبي القصي؟ كتب صالح مقالاته في الصحافة الليبية في الأربعينات والخمسينات ودخل السجن بسبب مواقفه السياسية، وكتب سيرته الذاتية وهيأها لتكون قابلة للنشر في حياته أو بعد مماته وأسفرت تركته الثقافية في بيته عن أرشيف مهم من الصحافة الليبية القديمة، والقصاصات الصحفية التي حوت مادة ثقافية نادرة. كتب عمر في الصحافة المحلية وراسل الصحافة الأجنبية،

 وفي أرشيفه الثري الذي أمكننا الاطلاع عليه من خلال ابن شقيقه الدكتور عبد المجيد التقاز أستاذ الفلسفة بجامعة الزاوية تعرفنا على مسودات مقالات صحفية مخطوطة، سطر فيها مواقفه من قضايا عديدة سياسية واجتماعية وتربوية، فضلا عما كتبه من الشعر العامي والشعر الفصيح. تزوج صالح مرتين؛ الأولى كانت من بنات عمومته ثم فارقها، والثانية كانت من عائلة ميزران الطرابلسية.

 وتزوج عمر من سيدة من مدينة الخمس. وأثمرت زيجات الرجلين عن بنين وبنات انسابوا جميعهم في ثنايا العاصمة ولم يتوغلوا غربا إلى حيث الموئل.

 كانت حياة الرجلين الدراسية قصيرة وفق النظام التعليمي لذلك الزمن، ومع ذلك فبنيان كتاباتهما الفكري، الموضوعي والذاتي تجاوز محدودية سنوات مقاعد الدراسة. 

سجل عمر التقاز في واحدة من مسوداته حوارا بينه وبين صديقه الفلسطيني سنة 1990م عشية الغزو العراقي للكويت، يحاول فيه أن يقنع صديقه بالكارثة التي سوف يجرها ذلك الغزو، مخالفا بذلك الرأي والمزاج العام والشعبي السائد آنذاك والمتماهي مع الغزو.

 في الجلسة الحوارية على هامش محاضرة المنتدى الليبي آنفة الذكر كان أحد جلسائنا صديق لصالح بن عمار ومجايل له، فحدثنا قائلا:

 زرت الشيخ صالح بعيد الفاتح سبتمبر 1969م بأيام وسألته مباشرة: هل ترى ما حدث انقلابا أم ثورة؟ فأجابني مباشرة: هو انقلاب وهناك من فهم وهنالك من سيظل طوال عمره لا يفهم. 

وعودا على السؤال المذكور آنفا بصيغة أخرى: انطلاقا من إرثهما المكتوب، ماذا يمكن أن يمثل الرجلان ؟ لم يؤرخ الرجلان لنفسيهما فقط؛ بل إنهما قيدا بالكتابة وشهدا على مراحل متتالية، ولعله في قراءة تقريبية يمكن الزعم بأن الرجلين يمثلان استبطان التغيرات البيئية المجتمعية من طرف النخبة الريفية التي نشأت في اليباب البعيد، حيث لا مواصلات ولا اتصالات ولا مذياع ولا صحافة ولا مكتبة، ومع ذلك تلمست طريقها في العتمات، واكتسبت وامتلكت ثقافة حقيقية وصعودا في السلم الاجتماعي، واندمجت في طرابلس الأعماق، بشخوصها ونخبتها، لكنها في الآن نفسه لم تتحول إلى بورجوازية مدينية، مقطوعة من هوامشها، وإنما ظلت وفية لمجتمعها العروشي الريفي، متآلفة مع مقتضيات عيشه وطبيعته حينما يستوجب الحال ذلك، ترتدي ما يرتدون وتتحدث لكنتهم التي يتحدثون.